الاثنين، يونيو 05، 2006

 

كـائـن فـارغ مـن أعـضـائـه

وضع السيجارة في زاوية فمه , ونفخ دخانها من منخريه , وجلس على المقعد الخشبي المهترئ الذي اعتاد أن يركبه , أمسك بمشرط , وخز جبهته , وأدار حركة المشرط حول رأسه , ليتأكد أن رأسه مخرومة من كل الجهات , رفع غطاء جمجمته , كان المخ بداخلها , أخرجه برفق , وكان ملتصقاً بهِ حبلاً عصبياً كالمشيمة , وضع مخه على الطاولة التي يتوسطها صحن مصنوع من البلاتين , شاهد مخه أمامه , هو الآن بلا رأس , بلا عقل , شاهد – بعيونه – أن بخاراً كثيفاً يخرج من عقله , فترتفع الأبخرة على شكل خطوط عبثية , تتداخل , وتتعارض , ثم لا تلبث أن تفترق , حتى ترتطم بسقف حجرته , وماهي إلا ثوانٍ معدودات , إلا وقد شاهد هذه الأبخرة تتماشج , وتصنع هيكلاً من نور , ثم تكسو نفسها بنفسها , وتصنع صورة من الصور , يصعب إدراكها , أو حتى الشعور بها لأول وهلة , كانت الصورة مهولة , رهيبة , عميقة , ذاتها تملك غوراً سحيقاً , لم تكُ وهماً أو خدعة , كانت صورة حية لامرأة : نعم , إنها صورة أقوى من إله .. نعم , وأصلب من حجر صلد .. نعم , هاتيك الصورة , ذاك الكمال الذي لا يصيبه النقص , تلك الماهية غير متحددة , يصيبها التعيّن , عيبها الوحيد .. أنها امرأة غير فانية
لم يلبث " قلبه " طويلاً , ارتجف , ودق بعنف , خرج من صدره , من بين القفص الحجري , ونطّ , إلى الصحن , مجاوراً للمخ , كان مربوطاً بوريدٍ يتوهج بلونه الأخضر , ولم يتبخر منه شيء , كان قلباً مصنوعاً من الخرسان , لا ينبض , ولا يطبل بالإيقاع راقصاً كبقية قلوب البشر . بل كان قلباً لرجل في العقد الخامس من عمره , قلباً مصنوعاً من رمل وزجاج , ما أسهل كسره وتفتيته وإذابته في التربة الصحراوية كي ينبت من وراءه الخزامى والعوشج الشائك . القلب والمخ يستعليان الصحن , والرقاقة العصبية كانت تنسدل بجانب الوريد , يصلان القلب والمخ بالجسد , في هذه الثواني القصيرة , كانت الأبخرة قد خلقت لها لساناً طويلاً وسط فمٍ كرزي , تحدثت , بنبرة بشرية جداً , تشبه تلك التي نسمعها في سوق الخضار أو الأسهم أو بسطة العجائز . قالت المرأة كلاماً : ظنه صاحبنا أنه لا يصدر إلا من امرأة , لم يكُ مبيناً ولا منمقاً ببلاغته , لم يميزه سوى نعومته القاصلة جداً
أخبرته أنه الآن بلا عقل ولا قلب , وأنها , ما أن تمد يدها المشعة , ستكون قادرة على قطع الوريد والعصب . ولكنها الآن لا تفضل ذلك , إنها تفضل أن تعزف بهما , أو تستخدمهما كوترين في كمانها , هي , تملك عقله وقلبه , وهو , ماذا يملك سواهما ؟ يملك كينونته فقط . وهذه الكينونة هي جسده , وتحولاته الحيوكيميائية , إنه تاريخه , الممتد لأكثر من أربعة عقود , ياللتفاهة , مالذي فعلته أنتَ وعجزت عنه الأمم ؟ إن ما فعلهُ "هو" من منجزات , كان موجوداً هُناك , وكان يرى فعائله كأمور عظيمة وذات شأو مهول , لكنها , مملوكة للبخار , للحلم الواقعي الذي يحكمه , والذي أفرغ رأسه , وصفّى جوفه , وجعله يدخن السجائر الأمريكية , ويجلس في مكانٍ معتم , كله جفاف , وخشخشة نمل وحشرات زاحفة . ماذا تملك أيها الرجل العجوز سوى هذه الحجرة التي حشرت ذاتك بها , أنتم , أيها الصحراويون , تعشقون العيش في الظلام , تهيمون بالإستمناء الفكري والعادات السرية , تحلمون بأشياء طوباوية من قبيل العبث والخيلاء الزائف
ماذا تملك غير كينونتك ؟ قل لي ؟ ماذا نفعتك أفلاطونيتك ومثاليتك التي جعلتها تخلقني , وتضع مني مثالاً , بل كنت بغرورك , تقول عني : سأرفع هذه المرأة إلى السماء , وسأجعل منها مركزاً للكون , وستتحقق مشيئة أرسطو . ثم تخليت عن هذا الرأي بسرعة , فأنت كافر , والكفار لا يحلمون بالجنة . قلت أنك ستضعني حاكمة لمدينة أفلاطون , ولن تستبعدني كما استبعد أفلاطون الشعراء , بل بالغت بهذا , إنك , تحبني , لأنك لم تجد غيري , ولو وجدت , سترى أنك أضعف من أن تحب امرأة حقيقية . ثم تنازلتَ بسخف عن هذا الرأي وقلتَ : أنني امرأة , ولست بأنثى , وعاقبني على نسويتي , ونسيت أن النسوة هن الإناث , وكنتَ , شبقاًَ , تستعملني لأغراضك الرخيصة , من قبيل المتعة , لم أكُ سوى دمية في يديك , وها أنا الآن , أقف فوقك , لا ترى مني إلا جسدي المومض , ولساني الطويل , هل أثبت لك أنك لست إلا شخصاً أضاع بوصلة الأقدار ؟
انطفأت سيجارته , فأخرج سيجارة ثانية من البوكيت , ودخنها , ثم سارع بالقول , إنه رجل , رغم كل أقاويلها , كان يعبث , وما الكون إلا عبث أسبغنا عليه صفة النظام , نحن , يا عزيزتي , فحول . أهل الصحراء , لم يعتادوا يوماً الولوج إلى عالم الأنثى , كانوا يولجون أشياء أخرى , يا آلهتي , أو يا بخاري الممشوج من وهمي , إسمعيني جيداً : يوجد فوق هذا الرف كتبي , إنها عامرة بالقصائد الشعبية السعودية , هل تريدينني أن أخرج لك قصيدة لأجدادي البدو ؟ كي تعرفي أنني - رغم تحضري البادي علي - لست إلا راعياً في أول عمري , تهت في زقاق أحد المدن الآسيوية , في رحلة اقترضت مالها من أحد الأصدقاء , ووجدت نفسي في أحضان المومسات , ورطنت معهن بعض الإنجليزية , وأقنعت نفسي بأنني لا أصطنع المدنية , وزرت بلداناً وأوطاناً , وكان اقتناعي يزيد ويقوى , قبل أن تأتي إليّ هنا , وتحاصرينني في هذه البقعة المظلمة . أي عدل هو هذا ؟ أن تحرميني من متعة المدنية والمبيت مع المومسات اللاتي استأجرتهن بدولارات لا تتجاوز الخمسة أو العشرة في أقصى حالات الغلاء ؟ أتذكر - يا أيتها الكائنة التي لا أعرف ماذا أطلق عليها من ألقاب - أتذكر أنني صليت الجمعة في الدمام , وكنت قبلها بليلة قد نمت مع مومسة شقراء في الدولة المتاخمة , والأفظع من هذا أنني صليت على جنابة !
ومع هذا , فإننا لا نزعم ريادتنا وعلوّنا وآنيتنا اللامحدودة , إننا ملوك هذا العالم , إننا سادة البشرية , نحن من يربيهم ويعلمهم الحكمة والموعظة الحسنة , وأنا , إذ أستخرج دماغي وقلبي وأضعهما على هذا الصحن الرخيص الذي لا يساوي ريالين , فإنني أثبت أنني فحلٌ لا يهاب صعاب الأمور , فمثلما مات أجدادي من أجل قضايا خاسرة كالقتال على ناقة شاردة أو بعير أجرب , فإنني كحفيد ووارث شرعي لهؤلاء , لا أبالي حين أخاطر بعقلي وأرميه جزافاً من أجل كائنٍ مخلوق من محض الخيال
كانت الأبخرة تتزايد , والضوء ينبجس , ويزيد في قوة إشعاعه , ويبرق وميضه برقاً خاطفاً , لكنه , مالبث أن بدأ يخفت مع حرارة الجو الجدلي , وببطءٍ ورويّة , تبخّر البخار وصار هواءً عارياً , وتلاشت الصورة الأنثوية المخيفة , وزال الشبح , وأيقن الرجل أنها غابت , فأمسك مخه الهلامي بيديه , ورفعه على أقل من المهل , وأطبق على رأسه وأحكم إغلاقه , ثم أراد أن يعيد قلبه إلى مكانه , ولم يجد بداً من أن يسحب الوريد , والذي بدوره سحب القلب معه , فقبض عليه بذراعه اليسرى , كان يقطر دماً يلمع بلونٍ قرمزي لطّخ ذارعه وقميصه وملأ المكان بالدم والنزيف , فأجحر الرجل قلبه في قفصه الصدري , وأحكم الإغلاق عليه
زمكان
زمكانيات
كاتب من السعودية

Comments:
نشر مع الموافقة المشكورة للزميل زمكان في المدونة بالموازتة مع النشر المسبق في منتدى اللادينين العرب
 
العزيز كاري يدو
عندك حق كتابات زمكان تجعلني انبش في ذاكرتي القصيرة جدا
الحشيش طريق من طرق المعرفة
لكني افضل النبيذ
لانه يجعلني أتقيأ ذاتي في المراحيض
يجعلني شرويطة و كلبا
 
إرسال تعليق



<< Home

This page is powered by Blogger. Isn't yours?